سورة البقرة - تفسير تفسير الثعلبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)}
{وَقَالُواْ} يعني اليهود.
{لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} قدراً مقدّراً ثمّ يزول عنّا العذاب وينقطع، واختلفوا في هذه الأيّام ما هي.
وقال ابن عبّاس ومجاهد: «قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود يقولون: مدّة الدّنيا سبعة آلاف سنة وإنّما نعذّب بكل ألف سنة يوماً واحداً ثمّ ينقطع العذاب بعد سبعة أيّام، فأنزل الله تعالى هذه الآية».
قتادة وعطاء: يعنون أربعين يوماً التي عبد أباؤهم فيها العجل وهي مدّة غيبة موسى عليه السلام عنهم.
الحسن وأبو العالية: قالت اليهود: إنّ ربّنا عتب علينا في أمرنا أقسم ليعذّبنا أربعين ليلة ثمّ يدخلنا الجنّة فلن تمسّنا النار إلاّ أربعين يوماً تحلّة القسم فقال الله تعالى تكذيباً لهم: قل يا محمّد {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ} ألف الاستفهام دخلت على ألف الوصل.
{عِندَ الله عَهْداً} موثقاً ألاّ يعذّبكم إلاّ هذه المدّة.
{فَلَنْ يُخْلِفَ الله عَهْدَهُ} وعده، وقال ابن مسعود: بالتوّعد يدلّ عليه قوله تعالى: {إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً} [مريم: 87] يعني قال: لا إله إلاّ الله مخلصاً {أَمْ تَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} قال: {بلى} بل (وبلى) حرفا استدراك ولهما معنيان لنفي الخبر الماضي واثبات الخبر المستقبل، قال الكسائي: الفرق بين (بلى ونعم)، إنّ بلى: أقرار بعد جحود، ونعم: جواب استفهام بغير جحد، فإذا قال: ألست فعلت كذا، فيقول: بلى، وإذا قال: ألم تفعل كذا؟
فيقول: بلى، وإذا قال: أفعلت كذا؟ فيقول: نعم.
قال الله تعالى {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُواْ بلى} [الملك: 8-9] وقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} [الأعراف: 172] وقال في غير الجحود {فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ} [الأعراف: 44] قالوا {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَآؤُنَا الأولون} [الصافات: 16-17] قل نعم وإنّما قال هاهنا بلى للجحود الّذي قبله وهو قوله: {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً}
{مَن كَسَبَ سَيِّئَةً} يعني الشرك.
{وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته} قرأ أهل المدينة خطيّاته بالجمع، وقرأ الباقون خطيته على الواحدة، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم والاحاطة الاحفاف بالشيء من جميع نواحيه واختلفوا في معناها هاهنا.
وقال ابن عبّاس والضحاك وعطاء وأبو العالية والربيع وابن زيد: هي الشرك يموت الرجل عليه فجعلوا الخطيئة الشّرك.
قال بعضهم: هي الذّنوب الكثيرة الموجبة لأهلها النّار.
أبو رزين عن الربيع بن خيثم في قوله تعالى: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته} قال: هو الّذي يموت على خطيئته قبل أن يتوب ومثله قال عكرمة وقال مقاتل: أصرّ عليها.
مجاهد: هي الذّنوب تحيط بالقلب كلّما عمل ذنباً إرتفعت حتّى تغشى القلب وهو الرّين.
وعن سلام بن مسكين أنّه سأل رجل الحسن عن هذه الآية؟
فقال السّائل: يا سبحان الله إلاّ أراك ذا لحية وما تدري ما محاطة الخطيئة! انظر في المصحف فكل آية نهى الله عزّ وجلّ عنها وأخبرك إنّه من عمل بها أدخله النّار فهي الخطئية المحيطة.
الكلبي: أو بقته ذنوبه دليله قوله تعالى: {إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66]: أي تهلكوا جميعاً.
وعن ابن عبّاس: أحيطت بما له من حسنة فأحبطته.
{فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وهذا من العام المخصوص بصور منها إلاّ من تاب بعد أن حمل على ظاهره {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أولئك أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ} في التّوراة. قال ابن عبّاس: الميثاق: العهد الجديد.
{لاَ تَعْبُدُونَ} بالياء قرأه ابن كثير وحميد وحمزة والكسائي.
الباقون: بالتّاء وهو إختيار أبي عبيد وأبو حاتم.
قال ابو عمرو: ألا تراه يقول: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً} فذلك المخاطبة على التّاء.
قال الكسائي: إنّما ارتفع لا يعبدون لأنّ معناه أخذنا ميثاق بني إسرائيل أن لا تعبدوا إلاّ الله فلمّا ألقى أن رفع الفعل ومثله قوله: {لاَ تَسْفِكُونَ}، نظير قوله عزّ وجلّ {أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ} [الزمر: 64]: يريد أن أعبد فلمّا حذفت النّاصبة عاد الفعل إلى المضارعة.
وقال طرفة:
ألا أيّهذا الزاجري احضر الوغى *** وأنْ أشهدَ اللّذاتِ هل أنت مخلدي
يريد أن أحضر، فلمّا نزع (أنْ) رفعه.
وقرأ أُبي بن كعب: لا تعبدوا جزماً على النهي أي وقلنا لهم لا تعبدوا الاّ الله {وبالوالدين إِحْسَاناً} ووصّيناهم بالوالدين إحسانا برّاً بهما وعطفاً عليهما.
وانّما قال بالوالدين واحدهما والدة؛ لأنّ المذكّر والمؤنّث إذا اقتربا غلب المذكّر لخفّته وقوتّه.
{وَذِي القربى} أي وبذي القرابة، والقربى مصدر على وزن فعلى كالحسنى والشّعرى.
قال طرفة:
وقربت بالقربى وجدك له يني *** فتحايك امر للنكيثة أشهد
{واليتامى} جمع يتيم مثل ندامى ونديم وهو الطفل الذي لا أبَّ له.
{والمساكين} يعني الفقراء.
{وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً} اختلفت القراءة فيه فقرأ زيد بن ثابت وأبو العالية وعاصم وأبو عمرو {حُسْنا} بضم الحَاء وجزم السّين وهو اختيار أبي حاتم دليله قوله عزّ وجلّ: {بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} [العنكبوت: 8] وقوله تعالى: {ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً} [النمل: 11].
وقرأ ابن مسعود وخلف حَسنا بفتح الحاء والسّين وهو اختيار أبي عبيد وقوله: إنّما إخترناها لأنها نعت بمعنى قولاً حسناً.
وقرأ ابن عمر: حُسُنا بضم الحاء والسّين والتنوين مثل الرّعب والنّصب والسّحت والسُحق ونحوها.
وقرأ عاصم والجحدري: احساناً بالألف.
وقرأ أبي بن كعب وطلحة بن مصرف: حسنى وقرنت بالقربى بالتأنيث مرسلة.
قال الثعلبي: سمعت القاسم بن حبيب يقول: سمعت أبا بكر بن عبدوس يقول: مجازه كلمة حسنى ومعناه قولوا للنّاس صدقاً وحقّاً في شأن محمّد صلى الله عليه وسلم فمن سألكم عنه فأصدقوه وبينوا له صفته ولا تكتموا أمره ولا تغيروا نعته هذا قول ابن عبّاس وابن جبير وابن جريج ومقاتل دليله قوله: {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً} [طه: 86] أي صدقاً.
وقال محمّد بن الحنفية: هذه الآية تشمل البرّ والفاجر.
وقال سفيان الثّوري: ائمروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر.
{وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} أي أعرضتم عن العهد والميثاق {إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ} نصب على الإستثناء.
{وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ} وذلك أن قوماً منهم آمنوا.
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ} لا تريقون {دِمَآءَكُمْ} وقرأ طلحة بن مصرف تسفكون بضم الفاء وهما لغتان مثل يعرشون ويعكفون.
وقرأ أبو مجلز: تسفكون بالتشديد على التكثير.
وقال ابن عبّاس وقتادة: معناه لا يسفك بعضكم دم بعض بغير حق وإنّما قال: {دماءكم} لمعنيين: أحدهما إن كلّ قوم إجتمعوا على دين واحد فهم كنفس واحدة.
والآخر: هو أنّ الرجل إذا قتل غيره كأنّما قتل نفسه لأنّه يقاد ويقتصّ منه {وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ} أي لا يخرج بعضكم بعضاً من داره ولا تسبوا من جاوركم فتلجئوهم إلى الخروج بسوء جواركم.
{ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ} بهذا العهد إنّه حقّ.
{وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} اليوم على ذلك يا معشر اليهود.


{ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)}
{ثُمَّ أَنْتُمْ هؤلاء} يعني يا هؤلاء فحذف النّداء للإستغناء بدلالة الكلام عليه كقوله: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا} [الإسراء: 3] فهؤلاء للتنبيه ومبني على الكسرة مثل أنتم {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} قرآءة العامّة بالتخفيف من القتل.
وقرأ الحسن: تقتلون بالتثقيل من التقتيل.
{وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ} قراءة العامّة وهم أهل الحجاز والشّام وأبو عمرو ويعقوب: تظاهرون بتشديد الظاء، واختاره أبو حاتم ومعناه تتظاهرون فأدغم التّاء في الظاء مثل: أثاقلتم وادّاركوا.
وقرأ عاصم والأعمش وحمزة وطلحة والحسن وأبو عبد الرحمن وأبو رجاء والكسائي: تظاهرون بتخفيف الظاء، واختاره أبو عبيد ووجه هذه القراءة: إنّهم حذفوا تّاء الفاعل وأبقوا تاء الخطاب كقوله: {وَلاَ تَعَاوَنُواْ} [المائدة: 2] وقوله: {مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ} [الصافات: 25].
وقال الشّاعر:
تعاطسون جميعاً حول داركم *** فكلّكم يا بني حمّان مزكوم
وقرأ أُبي ومجاهد: تظهّرون مشدداً بغير ألف أي تتظهّرون [...] جميعاً تعاونون، والظهر: العون سمّي بذلك لإسناد ظهره إلى ظهر صاحبه.
وقال الشّاعر:
تكثّر من الاخوان ما اسطعت *** [...] اذا إستنجدتهم فظهيرُ
وما بكثير ألف خل وصاحب *** وانّ عدوّاً واحداً لكثيرُ
{بالإثم وَالْعُدْوَانِ} بالمعصية والظلم.
{وَإِن يَأتُوكُمْ أسارى تُفَادُوهُمْ} قرأ عبد الرحمن السّلمي ومجاهد وابن كثير وابن محيصن وحميد وشبل والجحدري وأبو عمرو وابن عامر: {أُسارى تفدوهم} بغير ألف، وقرأ الحسن: {أسرى} بغير ألف {تفادوهم} بألالف، وقرأ النخعي وطلحة والأعمش ويحيى بن رئاب وحمزة وعيسى بن عمرو وابن أبي إسحاق: {أسرى تفدوهم} كلاهما بغير ألف وهي إختيار أبي عبيدة.
وقرأ أبو رجاء وأبو جعفر وشيبة ونافع وعاصم وقتادة والكسائي ويعقوب: {أُسارى تفادوهم} كلاهما بالألف، واختاره أبو حاتم.
فالأسرى: جمع أسير مثل جريح وجرحى، ومريض ومرضى، وصريع وصرعى، والأسارى: جمع أسير أيضاً مثل كُسالى وسُكارى، ويجوز أن يكون جمع أسرى نحو قولك: أمرأة سكرى ونساءٌ سُكارى، ولم يفرق بينهما أحد من العلماء الأثبات إلاّ أبو عمرو.
روى أبو هشام عن جبير الجعفي عن أبي عمرو قال: ما أُسر فهو أُسارى ومالم يؤسر فهو أُسرى، وروي عنه من وجه آخر قال: ما صار في أيديهم فهم أُسارى، وما جاء مستأسراً فهو أسرى.
عن أبي بكر النقاش قال: سمعت أحمد بن يحيى ثعلب وقد قيل له هذا الكلام عن أبي عمرو فقال: هذا كلام المجانين. يعني لافرق بينهما.
وحُكي عن أبي سعيد الضرير إنّه قال: الأُسارى: هم المقيدّون المشدَّدون والأسرى: هم المأسورون غير المقيدين. فأما قولهم تفدوهم بالمال وتنقذوهم بفدية أو بشيء آخر، وتفادوهم: تبادلوهم اراد مفاداة الأسير بالأسير، وأسرى: في محل نصب على الحال.
فأما معنى الآية قال السّدي: إنّ الله عزّ وجلّ أخذ على بني إسرئيل في التوراة أن لا يقتل بعضهم بعضاً، ولا يخرج بعضهم بعضاً من ديارهم فأيما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه بما قام ثمنه فاعتقوه.
فكانت قريظة خُلفاء الأوس، والنّضير خُلفاء الخزرج وكانوا يقتتلون في حرب نمير. فيُقاتل بنو قريظة مع حلفائهم، وبنو النّضير مع حلفائهم، وإذا غلبوا خرّبوا ديارهم وأخرجوهم منها فإذا أُسر رجل من الفريقين كليهما جمعوا له حتّى يفدوه وإن كان الاسير من عدوهم فيُعيّرهم العرب بذلك وتقول: كيف يقاتلونهم ويفدونهم.. ويقولن: إنّا قد أمرنا أنْ نفديهم وحُرّم علينا قتالهم. قالوا: فَلِمَ تقاتلونهم؟
قالوا: نستحي أن تستذل حلفاؤنا فذلك حين عيّرهم الله تعالى فقال: {ثُمَّ أَنْتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ} الآية، وفي الآية تقديم وتأخير نظمها: وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالأثمّ والعدوان {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} وأن يأتوكم أُسارى تفدوهم.
وكان الله تعالى أخذ عليهم أربعة عهود: ترك القتل، وترك الأخراج، وترك المظاهرة عليهم مع اعدائهم وفداء أُسرائهم. فأعرضوا عن كل ما أُمروا إلاّ الفداء. فقال الله عزّ وجلّ: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} فأيمانهم بالفداء وكفرهم بالقتل والأخراج والمظاهرة. قال مجاهد: يقول: إن وجدته في يد غيرك فديته، وأنت تقتله بيدك، وقيل: معناه يستعملون البعض ويتركون البعض، تفادون أُسراء قبيلتكم وتتركون أُسراء أهل ملّتكم فلا تفادونهم.
قال الله عزّ وجلّ {فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذلك مِنكُمْ} يا معشر اليهود {إِلاَّ خِزْيٌ} عذاب هوان.
{فِي الحياة الدنيا} فكان خزي قريظة القتل والسّبي، وخزي بني النضير الجلاء والنفي عن منازلهم وجنانهم إلى أذرعات وريحا من الشّام.
{وَيَوْمَ القيامة يُرَدُّونَ إلى أَشَدِّ العذاب} وهو عذاب النّار وقرأ أبو عبد الرحمن السّلمي وأبو رجاء والحسن: تُردّون بالتاء، لقوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ}.
{وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} بالتاء مدني وأبو بكر ويعقوب الباقون: بالتاء.
{أولئك الذين اشتروا} استبدلوا.
{الحياة الدنيا بالآخرة فَلاَ يُخَفَّفُ} يهوّن ويُرفّه.
{عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} يمنعون من عذاب الله.


{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)}
{وَلَقَدْ آتَيْنَا} أعطينا.
{موسى الكتاب} التوراة جملة واحدة.
{وَقَفَّيْنَا} أردفنا واتبعنا.
{مِن بَعْدِهِ بالرسل} رسولاً بعد رسول. يُقال: مضى أثرهُ وقفا غيره؛ في التعدية وهو مأخوذ من قفا الإنسان قال الله {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، وقال أُمية بن الصّلت:
قالت لأخت له قُصيه عن جنب *** وكيف تقفو ولا سهل ولا جدد
{وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات} العلامات الواضحات والدلالات اللايحات وهي التي ذكرها الله عزّ وجلّ في سورة آل عمران والمائدة.
{وَأَيَّدْنَاهُ} قويناه وأعناه من الآد والأيد، مجاهد: أيدناه بالمد وهما لغتان مثل كرّم وأكرم.
{بِرُوحِ القدس} خفف ابن كثير القدس في كل القرآن، وثقله الآخرون، وهما لغتان مثل الرّعب والسّحت ونحوهما، واختلفوا في روح القدس فقال الربيع وعكرمة: هو الرّوح الذي نفخ فيه إضافة إلى نفسه؛ تكريماً وتخصيصاً نحو بيت الله، وناقة الله وعبد الله، والقدس: هو الله عزّ وجلّ يدلّ عليه قوله تعالى: {وَرُوحٌ مِّنْهُ} [النساء: 171] وقوله: {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} [التحريم: 12].
والآخرون: أرادوا بالقدس الطهارة يعني الرّوح الطاهر سمّى روحه قدساً؛ لأنّه لم يتضمنه أصلاب الفحولة ولم تشتمل عليه أرحام الطوامث إنّما كان أمراً من الله تعالى.
السّدي والضّحاك وقتادة وكعب: الروح القدس: جبرئيل قال الحسن: القدس: هو الله وروحه جبرئيل.
السّدي: القدس: البركة وقد عظّم الله بركة جبرئيل إذ أنزل الله عامة وحيه إلى أنبيائه على لسانه وتأييد عيسى عليه السلام بجبرئيل هو إنّه كان قرينه يسير معه حيثما شاء والآخر إنّه صعد به إلى السّماء، ودليل هذا التأويل قوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس مِن رَّبِّكَ بالحق} [النحل: 102].
وقال ابن عبّاس وسعيد بن جبير وعبيد بن عمير: هو اسم الله الأعظم وبه كان يُحيي الموتى ويُري النّاس تلك العجائب.
وقال ابن زيد: هو الأنجيل جُعل له روحاً كما جعل القرآن لمحمّد صلى الله عليه وسلم روحاً، يدلّ عليه قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] فلمّا سمعت اليهود بذكر عيسى عليه السلام قالوا: يا محمّد لا مثل عيسى كما زعمت ولا كما يقصّ علينا من الأنبياء عليهم السلام قالوا: فأتنا بما أتى به عيسى إن كنت صادقاً.
فأنزل الله عزّ وجلّ {أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ} يا معشر اليهود {رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى} لا تحب ولا توافق.
{أَنْفُسُكُمْ استكبرتم} تكبّرتم وتعظمتم عن الأيمان به.
{فَفَرِيقاً} طائفة سُميّت بذلك لأنّها فرقت من الحملة.
{كَذَّبْتُمْ} عيسى ومحمّداً.
{فَرِيقاً تَقْتُلُونَ} أيّ قتلتم زكريا ويحيى وسائر من قُتلوا من الأنبياء.
{وَقَالُواْ} يعني اليهود {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} قرأ ابن محيصن بضم اللام، وقرأ الباقون بجزمه. فمن خففه فهو جمع الأغلف مثل أصفر وصُفر وأحمر وحُمر وهو الذي عليه غطاء وغشاء بمنزلة الأغلف غير المختون فالأغلف والأعلف واحد ومعناه عليها غشاوة فلا تعي ولا تفقه ما تقول يا محمّد.
قاله مجاهد وقتادة نظيره قوله عزّ وجلّ {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصّلت: 5]، ومن ثقّل فهو جمع غلاف مثل حجاب وحجب وكتاب وكتب، ومعناه: قلوبنا أوعية لكلّ علم فلا نحتاج إلى علمك وكتابك. قالهُ عطاء وابن عبّاس.
وقال الكلبي: يريدون أوعية لكلّ علم فهي لا تسمع حديثاً إلاّ وعته إلاّ حديثك لا تفقهه ولا تعيه ولو كان فيه خيراً لفهمته ووعته.
قال الله عزّ وجلّ {بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ} وأصل اللعن الطرد والأبعاد تقول العرب نماء ولعين أي بُعد. قال الشّماخ:
ذعرت به القطا ونفيت عنه *** مقام الذنب كالرّجل اللعين
فمعنى قوله: لعنهم الله طردّهم وأبعدهم من كل خير، وقال النضر بن شميل: الملعون المخزي المهلك.
{فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} معناه لا يؤمن منهم إلاّ قليلاً؛ لأنّ من آمن من المشركين أكثر ممن آمن من اليهود، قاله قتادة، وعلى هذا القول ما: صلة معناه فقليلاً يؤمنون، ونصب قليلاً على الحال.
وقال معمر: معناه لا يؤمنون إلاّ بقليل بما في أيديهم ويكفرون بأكثره، وعلى هذا القول يكون {قَلِيلا} منصوباً بنزع حرف الصّفة وما صلة أيّ فبقليل يؤمنون.
وقال الواقدي وغيره: معناه لا يؤمنون قليلاً ولا كثيراً، وهذا كقول الرّجل لأخر: ما قل ما تفعل وكذا يريد لا تفعله البتة.
وروى الفراء عن الكسائي: مررنا بأرض قلَّ ما ينبت الكراث والبصل يريدون لا ينبت شيئاً.
{وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله} يعني القرآن.
{مُصَدِّقٌ} موافق {لِّمَا مَعَهُمْ} وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة مصدقاً بالنّصب على الحال.
{وَكَانُواْ} يعني اليهود {مِن قَبْلُ} أي من قبل بعث محمّد صلى الله عليه وسلم {يَسْتَفْتِحُونَ} يستنصرون، قال الله تعالى {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح} [الأنفال: 19] أيّ أن تستنصروا فقد جاءكم النّصر.
وفي الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أنه كان يستفتح القتال بصعاليك المهاجرين».
{عَلَى الذين كَفَرُواْ} مشركي العرب وذلك إنّهم كانوا يقولون إذا حزم أمر ودهمهم عدو: (اللّهمّ انصرنا عليهم بالنبيّ المبعوث في آخر الزمان الذي نجد نعته وصفته في التوراة)، وكانوا يقولون زماناً لاعدائهم من المشركين قد أطل زمان نبي يخرج بتصديق ما قُلنا، ونقتلكم معه قبل عاد وأرم.
{فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ} يعني محمّداً صلى الله عليه وسلم من غير بني إسرائيل، وعرفوا نعته وصفته.
{كَفَرُواْ بِهِ} بغياً وحسداً.
{فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين} {بِئْسَمَا اشتروا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} بئس ونعم فعلان ماضيان وضعا للمدح والذم لا يتصرفان تصرف الافعال ومعنى الآية: بئس الذي اختاروا لأنفسهم حين استبدلوا الباطل بالحق، والكفر بالأيمان.
وقيل: معناه بئس ما باعوا به حظ أنفسهم.
{أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ الله} يعني القرآن.
{بَغْياً} بالبغي وأصل البغي الفساد. يُقال: بغى الجرح إذا أمد وضمد.
{أَن يُنَزِّلُ الله مِن فَضْلِهِ} النبوة والكتاب.
{على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} محمّد صلى الله عليه وسلم.
{فَبَآءُو بِغَضَبٍ على غَضَبٍ} أي مع غضب.
قال ابن عبّاس: الغضب الأوّل بتضييعهم التوراة، والغضب الثاني بكفرهم بهذا النبيّ الذي اتخذه الله تعالى.
فيهم قتادة وأبو العالية: الغضب الأوّل بكفرهم بعيسى عليه السلام والأنجيل والثاني: كفرهم بمحمّد صلى الله عليه وسلم والقرآن.
السّدي: الغضب الأوّل بعبادتهم العجل، والثاني بكفرهم بمحمّد صلى الله عليه وسلم وتبديل نعته.
{وَلِلْكَافِرِينَ} وللجاحدين لدين محمّد صلى الله عليه وسلم من النّاس كلهم.
{عَذَابٌ مُّهِينٌ} يُهانون فلا يُعزُون.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8